مقالات

أغرب وليمة رمضانية

شاب دون العشرين من عُمري طالبٌ في الثانوية العامة في مدينتي الحبيبة الإسكندرية؛ أذاكر دروسي مع زميل عزيز خلوق ينتمي الى عائله محترمة ميسورة الحال؛ تسكن في شقه رائعة واسعة؛ تطل من أحد جانبيها على ميدان المساجد في بحري الذي يضم مساجد المرسي ابو العباس والبوصيري وغيرهما؛ وتطل من جانبها الآخر على شاطئ البحر باتجاه الأنفوشي وترى قلعه قايتباي؛ ويمر من أسفلها الترام الأصفر العتيق العريق.

هذه الأسرة الكريمة احبتني واعتبرتني واحدًا من أبنائها فكنت أقضي معظم الأوقات عندهم مذاكرًا مع صديقي الذي كان أصغر أبنائهم؛ ومستمتعا بالأجواء البحرية المنعشة؛ وبالطعام الراقي الذي تعده والدته ومساعدتها بإتقان؛ والساندوتشات الفاخرة والحلويات التي لا تنقطع على مدار ساعات المذاكرة.

حدث في رمضان أمر غريب جدًا لهذه الأسرة الكريمة؛ أخبرهم أحد أقاربهم من أبناء العمومة كان مُستقرًا في أمريكا منذ زمن؛ أنه قادمٌ مع زوجته (الأمريكية) في زيارة سياحية سيقضي معظمها في القاهرة وسيقضي يوما واحدًا في الإسكندرية وسيفطر عندهم حتى تكون جولته المسائية مع زوجته بين فعاليات ليالي رمضان الشعبية البديعة في ميدان المساجد؛ وإكمال الأمسية على شاطئ البحر للسحور.

حتى الآن الأمر طبيعي؛ ولكن غير المألوف هو أنَّ هذه الأسرة الكريمة اجتمعت وناقشت الأمر؛ وقرروا أن يقدموا لونًا متميزًا من الضيافة؛ للتعريف بأصناف الطعام المصري لهذه الضيفة الأمريكية زوجة قريبهم، وأرادوا أن تتناول في مائدة إفطارهم كل ما يمثل المطبخ المصري (على قدر الاستطاعة).

قررت الأم أنها ستقوم بمهمة الطعام التقليدي الأصيل؛ فيكون لديها بط محشي وملوخية بالأرانب؛ ومحاشي متنوعة وصينيه بطاطس باللحم وفتة كوارع؛ مع الرز المعمر وصينية رقاق في الفرن وحمام محشي؛ وإحدى ابنتيها قالت لا يمكن أن تكون الضيفة الأجنبية في الإسكندرية ولا نطعمها مأكولات بحرية؛ فقررت هي أن تتولى موضوع السمك المقلي والمشوي والجمبري والكابوريا والحبار، وقررت الابنة الأخرى أن تقدم المشويات المصرية الكباب والكفتة والطرب والريش والدجاج مع صينية مكرونة بالباشميل.

ورأى أكبر الأبناء أن يضيف إلى الطعام أيضًا إحدى أهم خصائص المائدة المصرية التي لا ينبغي أبدًا أن تغيب؛ وهي الشعبيات فقرر الاتيان بالفول المدمس والطعمية والكشري والمخللات والسلطات؛ ولم ينس شوربة العدس والكبدة الاسكندراني  وتطوع الأخير بالحلويات الرمضانية (الكنافة والقطايف)؛ ومشروبات الإفطار: قمر الدين والعرقسوس والتمر هندي والخروب.

هذه المائدة العجيبة الغريبة التي جلستُ عليها كانت أول (أوبن بوفيه) أحضره في حياتي، ولكن ما علاقتي أنا بهذه المناسبة؟ ولماذا حضرتُها بغرائبيتها؟؛ رغم أنني لستُ من أفراد العائلة!؛ هذا ما سأوضحه في الجزء الثاني.

الجزء الثاني 

كان هذا المغترب ابن العم المقيم في أمريكا لديه مشكلة أن زوجته لم تعتنق الإسلام وأنه لم ينجح في إقناعها بذلك؛ وطلب منهم أن يساعدوه في هذه المهمة، وسبحان الله .. يبدو انهم توسموا فيَّ أنا الخيرَ وأني على اطلاع بالثقافة الإسلامية؛ كما كان مستواي لا بأس به في اللغة الإنجليزية، فكلفوني مع ابنهم زميلي أن نبحث عن حل هذه المشكلة.

لم نكن حينها نعرف جمعياتٍ دعوية؛ أو مكاتب دعوة جاليات؛ أو مكتبات نجد فيها ترجمات للكتب الإسلامية، ولكنني اجتهدت في الأمر بشدة؛ وبحثت وسألتُ حتى دلوني على رجل فاضل اسمه المهندس “محمد توفيق” كان مؤسسًا لجمعيه اسمها “دار تبليغ الإسلام”؛ لم يكن لها مقرٌ؛ بل كان يعملُ من بيته.

ولا أنسى ابدا زيارتي لهذا الرجل الفاضل رحمه الله في منزله بشارع الامير عمر لطفي؛ الشقة تُطل على نادي سبورتنج  ذهبت إليه أنا وزميلي ابن هذه العائلة؛ ودخلنا إلى غرفه صالون حيث استقبلنا ببشاشةٍ وترحاب وكان مسنًا ضخم البنية طيب الملامح قليل الكلام؛ مُحاطًا بعدد كبير من الكراتين التي فيها نشرات دعوية مطبوعة بمختلف اللغات.

أخبرناه بما نريد فوقف متكئًا على عكازه وصار باليد الأخرى ينتقي لنا من الكراتين المخصصة للغة الإنجليزية كتيبات ومطويات للتعريف بعقيده الاسلام وبعباداته .. وغيرها، وبعد أن أعطانا هذه المجموعة من الكتيبات وشكرناه عليها قال: “بل أنا الذي اشكركم فانا لا أجد من يتواصل معي ويساعدني في إيصال هذا الخير للناس؛ وعندما كنت في شبابي وعافيتي كنت أقوم بمجهود أفضل من ذلك”.

قبل المغادرة استوقفنا على الباب وسألنا سؤالاً أخيرًا؛ قال: “هذا الأخ المصري الأمريكي الذي تتحدثون عنه وأنه لم يستطع إقناع زوجته بالدخول في الإسلام .. هنا سؤال مهم جدًا وعلامة استفهام كبيرة لا بد من الإجابة عليها؛ لأنها أهم من إعطاء هذه المطبوعات لزوجته الأمريكية؛ وهو: هل هذا الشخص هو نفسُه ملتزمٌ بتعاليم الإسلام وقيمه؛ ومُطبق لشعائره على نفسه أم لا”؟”، فنظرت إلى صديقي ليجيب فقال: “والله أنا لا أعرف الرجل؛ فهو أكبر مني سنًا وهو مغتربٌ عنا منذ سنوات بعيدة؛ ولا أعرف مستوى التزامه”؛ قال المهندس توفيق: ” لا بأس ولكن إذن ضعوا هذا الأمرَ في أذهانكم أنَّ الكتب والمطبوعات لن تجديَ مع زوجته كثيرًا ما لم يكن هو نفسه في حياته ملتزمًا بتعاليم الإسلام؛ فإنَّ فاقدَ الشيء لا يُعطيه”.

طبعًا كانت تلك الزيارة لهذا الداعية الفاضل قبيل الوليمة الفاخرة التي قصصتُ لكم حكايتها؛ وكانت من أغرب الولائم الرمضانية التي دُعيت إليها في حياتي، وكُلُّ عامٍ وأنتم بخير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com