
بقلم: الأستاذ حسين عبيد الصعب ( تربوي ) في أحد الفصول الدراسية، كان هناك طالب دائم التوتر، كثير الشرود، قليل الكلام، يردّ على المعلم بأدب، لكنه لا يبتسم.
وفي أحد الأيام، وبعد موقف تربوي بسيط، سأله معلمه بلطف: “متى آخر مرة جلس معك والدك وحدكما دون مقاطعة؟”
طال صمت الطالب، ثم قال: “مدري… يمكن من ابتدائي، وإلى الآن ما قد قال لي: تعال أجلس معك شوي.”
يقول المعلم: تغيّرت نظرتي لذلك الطالب تمامًا. لم أعد أراه ضعيف التفاعل، بل مكسورًا من الداخل. لم تكن مشكلته سلوكًا، بل غياب أبٍ كان يجب أن يكون سندًا، فصار ظلًا لا يدفئ.
غياب الأب ليس بالضرورة سفرًا أو طلاقًا، بل قد يكون غياب الحضور العاطفي، وغياب التفاعل التربوي.
أن يكون في المنزل، لكنه لا يسأل: “كيف كان يومك؟”
أن ينفق المال ويظن أن دوره قد اكتمل،
أن يعيش بين جدران البيت دون أن يسكن في قلوب أبنائه.
هذا الغياب لا يُرى بالعين، لكنه يُحَسّ في تصرفات الأبناء،
ويترجم إلى ضعف ثقة، أو عناد خفي، أو بحثٍ يائس عن قدوة في مكان آخر.
فتأثير الأب أو غيابه عاطفيًا ينعكس بوضوح:
• البنت حين يغيب عنها الاحتواء الأبوي، تبدأ بالبحث عمّن يراها، يسمعها، يشعر بها.
وقد تقع فريسة لكلمة إعجاب، كانت تتوق لسماعها من أبيها.
• الابن حين لا يجد أبًا يثق به أو يرشده، قد يُربى على يد الهاتف، أو الشارع، أو على هواه.
• الأم تُصبح مشغولة بالدورين: مربية وأب، حازمة وحنونة، فتنكسر في صمت، وتضيع ملامحها في زحمة الأدوار.
ويتحجّج الأب أحيانًا بالغياب، بدافع حسن نية:
“أشتغل عشانهم”
“ما أبغى أضغطهم، الأم أحنّ”
لكن النتيجة:
بيت بلا صوت أبوي، بلا توجيه، بلا جلسة صادقة،
بلا قدوة يعيشها الأبناء فعليًا، لا يتخيلونها فقط.
لسنا هنا في موضع لوم أو عتاب لكل أب، فبين الآباء رجال أفنوا أعمارهم في التربية، وحملوا همّ أبنائهم بصدق وإخلاص.
لكن هذا المقال رسالة لكل أب قد يكون غيابه دون أن يشعر، أو تاه في زحمة العمل والضغوط، فنسي أن حضوره العاطفي أغلى من أي عطاء مادي.
نحن لا نُدين أحدًا، بل نفتح بابًا للوعي، ونمدّ يد الشراكة في بناء جيلٍ سليم من الداخل، واثق من نفسه، مطمئن بحضور والده.
فمتى يعود الأب :
ليس متأخرًا أبدًا.
يعود حين يُدرك أن أبناءه لا يحتاجون المال فقط، بل الأمان والحوار والتوجيه.
حين يبدأ بجلسة بسيطة، بلا مواعظ:
“احكِ لي عن يومك.”
حين يظهر معهم لا كمراقب، بل كصديق ناضج.
حين يرى في كل ابن مشروع إنسان، لا مجرد طالب نجاح أو حافظ سلوك.
العودة تبدأ بكلمة،
وقد تعيد بناء سنوات من الصمت.
من أعماق الميدان:
ما أتعبنا في المدرسة ليس كثرة المناهج، ولا تحديات التعليم،
بل غياب الأب الحقيقي عن مشهد ابنه التربوي.
حين يغيب الأب عن سؤال بسيط:
“كيف مستوى ابني؟ هل تغيّر سلوكه؟”
يبدأ الانحدار التربوي، لأننا كمعلمين لا نستطيع وحدنا بناء الشخصية دون مشاركة الأب،وخاصة في المرحلة المتوسطة، هذه المرحلة الحرجة التي تُبنى فيها القيم، وتتشكّل فيها الملامح الداخلية للابن،
وجود الأب، وحرصه، وسؤاله، ومشاركته البسيطة في المدرسة،قد تكون أحيانًا أقوى من درس، أو برنامج، أو جائزة،وما يوجع أكثر، أن يُستدعى الأب مرارًا من المدرسة، ولا يستجيب، وكأن أمر ابنه لا يعنيه.
حينها يتلقّى الابن هذه الرسالة القاسية: “حتى أبي لا يهتم بي.”
وجودك في المدرسة ليس تقليلًا منك كأب، بل رفعة لك.
وهو إعلان غير مباشر لابنك: “أنا أراك، أتابعك، وأهتم بك.”
تعاوننا معًا في هذه المرحلة هو الشراكة الحقيقية في بناء حياة ابنك.
ومن لا يبني الآن، قد يندم لاحقًا حين لا يجد ما يُرمم.
ختامًا… من تجربتي الميدانية التربوية:
لقد رأيت مئات الحالات،
ورأيت كيف تكون الأبوة الحقيقية أغلى من أي شهادة أو نجاح خارجي،
وأن بعض الأبناء لا يحتاجون أكثر من نظرة احترام من أبيهم،
وجلسة ينام بعدها وهو مطمئن.
وأن بعض الآباء، لو علموا ما تفعل كلمة: “أنا فخور فيك” في قلب ابنهم،
لقالوها كل يوم.
ليست الأبوة سلطة، بل مسؤولية،
وليست حضورًا جسديًا، بل أثرٌ يبقى حتى بعد الغياب.
كم من طالبٍ كُسرت نفسه من كلمة جارحة خرجت من فم أبيه،
كلمة لم تُنسَ، وظلت تتردد في ذاكرته سنين طويلة.
رأينا في الميدان بعض هؤلاء الأبناء:
دخلوا الجلسات الإرشادية بحذر، ثم بدأوا شيئًا فشيئًا يستعيدون الثقة بأنفسهم،
ويشاركون في البرامج، ويحاولون الوقوف من جديد.
بعضهم وجد طريقه، فهم ذاته، وانطلق بثبات نحو حياة صحيحة.
لكن بعضهم، كان الجُرح الذي تركه الأب أعمق من العلاج،
وظلّ أثره يعيق بناءه، ويشوّه صورته الداخلية.
فليت كل أبٍ يدرك أن القلوب تختلف، والشخصيات تتباين،
وأن بعض الكلمات قد تُربّي، وأخرى قد تهدم من الداخل.
رفقًا بأبنائكم
فأنتم في أعينهم أكبر مما تتخيلون،
وكلماتكم قد تكون بداية خلاص… أو بداية انكسار.