الحكيم (1)

وقفتُ على أطلالِ ماضيك،
وما زلتُ بحسرةٍ أناديك،
رفعتُ بالإجهاش صوتي أسألها:
هل تتذكرين من كان يُغليك؟
هل ما زلتِ ذلك الحبيب الذي كنتُ أنا أغلى أمانيه؟
وقفتُ على أطلالك فاستوقفتني،
سألتُها فما جاوبتني،
وجدتُها قد طمرها النسيان،
واندثرت تحت أنقاض الجحود والنكران.
بحثتُ في هويتها القديمة،
فالتقيتُ بسيرةٍ أليمة،
وآثارِ عمرٍ مضى في براويز سقيمة،
قد تشوَّهت وجوهُ أصحابها،
وفقدت روحَ أحبابها،
وأوصدت في وصلهم بابها.
وقفتُ فصرختُ أنادي،
وتركتُ صوتي يتوه في كل وادٍ،
وأطلقتُ العنانَ لفؤادي
كي يحسَّ بذلك الشعور غير العادي.
وبينما أنا كذلك،
أقفُ في دهاليز المهالك،
إذ بي أسمع صوتَ صدى
أتاني من بعيد المدى،
يقول لي:
“ماذا دهاك؟ وإلى أي حدٍّ ينتهي مداك؟
ألم تبلغ بعدُ مبتغاك؟”
فقلتُ وأنا في ذعرٍ:
“آنسٌ أنت أم جانّ؟”
فقال:
“أنا الحكيم، الذي لا ينطق بكلامٍ غير سليم،
ورسالتي موجَّهة من الصميم إلى الصميم.”
فقلتُ:
“أرشدني يا حكيم، أين الطريق؟
وكن في نصحك لي صديقًا.”
فقال وهو غيرُ متعالٍ:
“دعك من صديقٍ لا يرضيك،
وقريبٍ لا يأتيك،
وشخصٍ لا يعنيك.”
فقلتُ:
“إذا تركتُ صديقي لأنه لا يرضيني،
فلن أجد من يماشيني!”
فقال:
“ليس قصدي هذا المقال،
وإنما من يرضيك بحسن الأفعال، وصدق الأقوال، وطيب الخصال.”
فقلتُ:
“وإذا تركتُ قريبًا لا يأتيني،
سأكون للصلة قاطعًا، وتخسر موازيني.”
فقال:
“ليس لي أن أنجِّسك الأعمال،
ولكن الذي أعنيه، وكلامي عليه أبنيه،
أن تنأى بنفسك عن كل قريبٍ
يغرس في نفسك جرحًا لا يطيب،
ولا يقف بجانبك في حاجتك إليه أبدًا،
وواضعٍ بينك وبينه من البغضاء أمدًا،
يرى في قربك مذلَّة،
وحينما يرى بك ضيقًا يشفي غِلَّه،
وسعادته أن تقع في زلَّة،
فهذا القريب لا تأتهِ،
ولو كنتَ تحتاجه.”
فقلتُ وأنا مُشتاق
لأحاديثه الدفَّاقة،
وعباراته التي كلها رشاقة:
“ومن هو الشخص الذي لا يعنيني،
ولا تريد أن يكون شيءٌ بيني وبينه؟”
فقال لي في الحال:
“كلُّ من لا يعنيك شأنُه،
ولا تعرف خيره وبهتانه،
فقد يُغريك هدوؤه، فيثور بك بركانه.”
فقلتُ:
“آه يا حكيم، لو تعلم ما بصدر خالدٍ من أنين،
وكم عانى طوال هذه السنين،
وهو يبحث عن نصفه الثاني،
الذي به يشعر بطعم الحياة، ويفهم مبتغاه.”
فقال:
“بُني، على رسلك، فلستَ المحزون الوحيد،
فهناك العديد غيرك من الهمِّ بهم محيط،
وآلامهم في مزيد.”
فقلتُ:
“يا حكيم، فما الذي يُبعد عني هذا الأنين،
وشعوري بأني سقيم،
واشتياقي لذلك الحبيب الذي لا يزال عني بعيدًا؟”
فقال:
“يا خالد، حتى الحكيم فاقدٌ حبيب،
وعاجزٌ أن يكون لسؤالك مجيبًا.”
فقلتُ:
“إذًا لستَ الحكيم الذي أنا أريد،
ولكنّي بنصائحك جدٌّ مستفيد،
ولا يزال أمامي المزيد،
وسأواصل بحثي عمّا أريد.”
ذهبتُ وأنا يحدوني الأمل
أن أجد ذلك الحبيب
بقلم: خالد أبو ظهر الغامدي




