لحظة حزن…

كل يوم نعيشه في هذه الدنيا يزيدنا قناعة بغرابتها وصعوبة فك رموزها. فهناك — على سبيل المثال — أناس في حياتنا لا نختارهم ولا نحتاجهم بالضرورة، بل قد يفرض بعضهم علينا فرضًا، والبعض الآخر قد لا نشعر بوجوده إن حضر أو غاب؛ فلا نجد منهم ضرًّا ولا نفعًا. لكن ما إن نفقد وجودهم في حياتنا نَشْعُر بالحزن والأسى عليهم، وكأن شيئًا من نمط حياتنا اختلَّ أو نقص.
منذ نعومة أظافري وأنا أرى ذلك الرجل الذي قدَّر الله أن يكون لديه قصور في قواه العقلية، لكنه لم يكن يؤذي أحدًا، بل يجعلك في حيرة من أمره. فهو يناقض وضعه الصحي المعروف للجميع؛ فرغم أنه كما يقال «على البركة» إلّا أنه يمتاز بذاكرة غير عادية. ما أن تخبره باسم والدك إلا ويُسْرِدُ لك أسماء عائلتك، ويذكر خالك فلانًا وعمك فلانًا، ويستطرد ممدحًا فلانًا من الناس ومذمًّا آخرَ دون خوف أو محاباة — فحكمه نابع من تعامل سابق مع ذلك الشخص.
لم يكن من قريتي، بل من قرية مجاورة لنا، وكنت أراه وأنا صغير بين الفينة والأخرى: إما عائدًا من المدرسة، أو وهو يرعى الغنم، أو أحيانًا يمشي أمام بيتنا وفي مناسبات الزواج غالبًا. وبعدما كبرت اعتدت أن أراه في صلاة الجمعة في جامعٍ كبير، وكثيرًا ما كنت أسمع صوته الجهوري داخل المسجد أو خارجه عند أي أمر لا يعجبه.
كنت أحب أن أمازحه؛ يسألني من أنا فأخبره، فيعيد ما قد سمعه من قبل أنه يعرف والدي وأهلي… طوَتنا تلك السنين وكبرت وسافرت من مدينتي لإكمال دراستي الجامعية ونسيته لفترة من الزمن. لكن يشاء الله أن أعود إلى منطقتي وأنتقل من قريتي وأبحث عن سكن في قرية مجاورة، فتكون المفاجأة أنه يسكن في البيت المجاور لمنزلي، وكانت سؤاله التقليدي «ولد من أنت؟» هو أول ما سمعته منه، كأنه لم يرني من قبل قط. لم أعد أمازحه كما في السابق. هل لأن كونه جارًا قد يحرجني لو أخذ عليّ؟ أم لأني كبرت وأصبحت لدي التزامات ومسؤوليات أهم من ممازحة ذلك الشخص؟ لا أدري بالضبط.
كان هو أول شخص زارنا في العيد منذ انتقلت لتلك القرية، وكان أول من يخبرنا بكل حدث سار أو ضار. مضت ثلاث سنوات وهو على حاله؛ اعتدت أن أراه عند باب بيته كل يوم صباحًا. قبل عدة أيام، وأنا متجه إلى عملي، إذا به يستوقفني لأوصله إلى محل الفول الذي اعتاد الإفطار فيه كل صباح، وأخذ يسألني كعادته «من أنت؟» فأجيبه وأنا مبتسم، ويبدأ بالسرد المعتاد. لم أعد أعرف كل ما كان يقوله لكبر سنه وصعوبة كلامه. أوصلته إلى محل الفول واقسَمْتُ أن يكون فطوره على حسابي.
نظر إليّ مبتسمًا وهو يهم بالمغادرة، وقال «يسعدك» بصوت خافت قد أنهكه تعب السنين، لكن نطقه للكلمة جعلني أبتسم وأنسى همًّا كنت أمرُّ به. ودعته وذهبت لأراه في اليوم التالي في المسجد، فإذا به منزعج من تصرفات الأولاد معه؛ فلما رآني ابتسم وجاء يصافحني. كان كل هذا شيئًا عاديًا بالنسب لي حتى عصر هذا اليوم، حين خرجت لصلاة العصر فإذا بي أفاجأ بجنازة. لما سألت من هو قالوا: «ع. ب. — المجنون» كما اعتدنا أن ينادوه بذلك الاسم. عاش ما شاء الله بتلك الظروف ورحل بدون ولد ولا مال ولا حول ولا قوة.
وجدت نفسي وأنا أدعو له بالتثبيت أبكي وأنتحب بصوت مسموع كأنه أعز قريب أو صديق لي. هل لأنّه عاش في تعب ومعاناة؟ أم لأنّي اعتدت على وجوده؟ أم لأن (خيرًا منا رفع الله عنه القلم فارتاح بموته ونحن قد تكون عقولنا سببًا لعذابنا)؟ لا أعلم بصدق.
بقلمي: الأستاذ خالد أبو ظهر الغامدي
سمو الفكر




