خمس سنوات مضت…

هناك أيام لا تُنسى…
وأحداث تبقى محفورة في العمر، كأنها كُتبت على القلب لا على الورق. ذلك اليوم قبل خمس سنوات كان يومًا لا يشبه غيره من الأيام،
وما زال كأنه بالأمس…
يومٌ انطفأت فيه شمعتان من أجمل شموع حياتي.
يومٌ رحل فيه والدي مسفر أبوظهر، وجدتي بركة صالح،
وكأن القدر اختار أن يضمّهما معًا في يوم واحد،
ليكتمل بهما المشهد الأخير من حياةٍ عشتها تحت ظلّهما.
خمس سنوات وأنا أحاول أن أكتب…
لكن الوجع كان أكبر من الكلمات.
خمس سنوات وأنا أبحث عن الحرف،
وكلما هممت بالكتابة اختنق الحرف، وقبله اختنقت روحي…
لأن الكتابة عنهما ليست مجرد نص،
بل نزف، وامتنان، ودمعة لا تجف.
واليوم فقط استطعت أن أفتح هذا الباب،
لا لمجرد الكتابة أو توثيق تلك اللحظة،
بل لأقول:
إن الفقد مهما مرّ عليه الزمن… يبقى جزءًا منا،
وإن من نحب لا يرحلون حقًا،
بل يبقون في تفاصيل حياتنا، وفي الذاكرة التي لا تموت.
كانا في المستشفى… كلٌّ في سريره،
لا يدري أحدهما عن الآخر.
أبي أُدخل المستشفى أولًا،
ثم لحقت به جدتي، وهي كبيرة في السن،
ولم تعد تعلم كثيرًا مما يجري حولها،
فحمى الله قلبها من الوجع الأخير بعدم معرفتها بما يدور،
وحقق لها أمنيتها القديمة:
ألا تبكيه، ولا تشهد ضعفه، ولا ترى ألمه.
فجر ذلك اليوم…
اتصلوا بي من المستشفى وقالوا:
«جدتك توفيت».
ذهبت، وأنهيت أوراقها، وسلّمت أمري وأمرها لله.
ثم توجهت لزيارة أبي…
وكانت الزيارة ممنوعة، وبالكاد سمحوا لي برؤيته من بعيد.
كان جالسًا، متعبًا، لكنه حاضر الذهن.
سأل عن الجميع، وأوصاني، ودعا لنا.
كانت وصية رجل عرف الدنيا، واستعد للقاء الله.
لم أخبره بوفاة جدتي.
خرجت من عنده لأتابع تجهيزات دفنها،
وأخذت جواله بحجة إصلاحه، لأنه كان يشتكي من سوء الاتصال،
وكان قصدي ألا يخبره أحد بوفاة والدته…
ولم أعلم أن الله قد قضى أمرًا كان مفعولًا.
وبينما أنا في انشغال الفقد الأول،
جاءني خبر الفقد الثاني…
خبر وفاة والدي قبل العصر بقليل.
صُعقت من الخبر.
كنت عنده قبل ساعات، جالسًا يكلمني… كيف هذا؟
قلت في نفسي:
ربما هناك خطأ… ربما يقصدون جدتي،
ربما نُقل الخبر بالخطأ…
لكن حكم الله كان نافذًا.
انتقلا إلى رحمة الله ولطفه في يوم واحد،
وكأن الحياة أرادت أن تختم حكايتهما بخاتمة مشتركة…
كما عاشا، رحلا.
رحلا دون أن يعانيا حرارة الفقد التي عانيناها،
وكأنهما خرجا من الدنيا يدًا بيد،
كما عاشا في قلبي طوال عمري.
والدي…
كان الرجل الذي صاغ روحي.
كان معلمي قبل أن يكون والدي.
كان قدوتي الأولى، وميزان رجولتي.
كان تأثيره في شخصيتي أكبر من كل الكلمات،
زرع فيّ الهدوء، والفهم، والاتزان،
علّمني أن الإيمان ليس كلامًا، بل سلوك،
وأن الأخلاق دين.
كان أثر فقده في حياتي بحجم الجبال.
علّمني الرجولة، والشجاعة، والقناعة، والإيمان.
علّمني الأمانة، وحسن الخلق، وعدم التكبر.
علّمنا أن نكون سندًا لبعضنا البعض، أنا وإخوتي، منذ نعومة أظافرنا.
ثقته بي كانت أكبر من عمري،
وكان قدوتي وسر اعتزازي به في حياته وبعد مماته، بسيرته العطرة.
فقدانه لم يكن فقد أبٍ فقط…
بل فقد عمودٍ من أعمدة حياتي.
وجدتي بركة… كانت اسمًا على مسمّى.
كانت أمًّا، وأبًا، وجدّة، وأختًا، وصديقة.
كانت بالنسبة لي مجموعة بشر في جسد واحد.
كانت أميّة لا تقرأ ولا تكتب،
لكنها تحفظ من الحياة ما لا يحفظه المتعلمون.
كانت ديّنة، قوية، ذات خُلُق، وشاعرة بالفطرة.
كانت تشاهد التلفاز وتتأثر بالأحاديث الشريفة،
وبآيات القرآن، وبكلام المشايخ،
حتى صار حديثها حكمة، وصوتها طمأنينة.
وعندما أتعب، أو أُجهد، أو تُرهقني الحياة ومتاعبها،
كانت تلامس روحي بكلماتها العذبة وطاقتها الإيجابية:
«اذكر الله يا ولدي…
لا تجعل الدنيا أكبر همك…
اللي من الله حيّاه الله».
كانا أجمل وأعظم اثنين نقشا حياتي بعمق الأثر.
ماتا في يوم واحد،
ودُفِنا جنبًا إلى جنب،
وكانت النهاية أهدأ مما تظنه القلوب.
رحمهما الله رحمة واسعة، وأسكنهما فسيح جناته.
بقلم : خالد أبو ظهر الغامدي




